يُعتبر السجن وسيلة متعددة الأغراض تتفاوت أهميتها حسب السياق القانوني والاجتماعي والثقافي. ففي الوقت الذي يركز فيه بعض الأنظمة على تنفيذ العقاب والحرص على الردع، تهتم أخرى بالإصلاح وإعادة التأهيل. وإن تطور السياسات الزجرية يعكس تطور المجتمعات وفهمها لحقوق الإنسان وأهداف العدالة.
فمن السائد أن السجن يُفرض كوسيلة لضمان الأمن الاجتماعي وإصلاح من أقر القضاء بذنبهم. حيث كان يُعتبر مكانًا لتأهيل الأفراد بهدف دمجهم مجددًا في المجتمع بعد انقضاء مدة عقوبتهم/ن بعيدا عن منطق التشفي أو خلق نماذج جديدة من الخطورة. لكن في الواقع، يعتبر السجن من أخطر العقوبات التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان، حيث لا يقتصر الأمر على حرمان الشخص من حريته، بل يمتد إلى وصم اجتماعي قد يؤثر على حياته بشكل دائم. هذا الوصم يصبح أكثر قسوة إذا تعلق الأمر بالنساء، حيث إن الأنظمة الأبويّة والتي يطغى عليها الطابع الذكوري تواصل استهداف النساء ووصمهن حتى بعد مغادرتهن السجن، مما يفاقم من معاناتهن ويجعل آثار العقوبة أعمق وأطول.
بينما قد يُنظر إلى هذه السياسات على أنها وسيلة للحد من الجريمة، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن السجن وحده لا يساهم في الإصلاح في حال لم ترافقه آليات تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للجريمة وتهيئة السجينات لعودتهن إلى المجتمع بشكل إيجابي. بل على العكس، قد يسهم في تفاقم مشكلاتهن النفسية والاجتماعية، مما يحولهن إلى أفراد أكثر انعزالًا وتعقيدًا في أنماط سلوكهن.
إن معالجة هذه الظواهر تتطلب من الدولة تطوير سياستها الجزائية والتوجه نحو اعتماد عقوبات بديلة أكثر إنسانية
خاصة في الحالات التي لا تشكل الجرائم فيها خطرًا جسيمًا على المجتمع. وبناءً على نوع الجريمة، وأهداف النظام القضائي، وظروف الجاني/ة وهنا نأخذ بعين الاعتبار الآثار المترتبة على الأمهات السجينات، يمثل حيث يمثل هذا الموضوع تحديًا كبيرًا لحقوق الإنسان، خاصة في ضوء تأثيره العميق على الأطفال والأسر.
بحيث تُوازن بين توفير الأمن الاجتماعي وضمان حقوق الأفراد، وتفادي خلق جيل جديد من الضحايا بسبب السياسات الزجرية. وتنطوي وجهة النظر في أن العقوبات البديلة وسيلة لتعزيز العدالة والحد من الآثار السلبية للسجن خاصة على الأمهات وأطفالهن، غير أن تونس على المستوى التطبيقي لم تعتمد هذا التوجه بشكل فعّال رغم وجود أساس قانوني يتيح ذلك. حيث ينص القانون عدد 58 لسنة 2008 على إيداع الأمهات السجينات الحوامل أو المرضعات في فضاءات خاصة توفر الرعاية اللازمة لهن ولأطفالهن حتى بلوغ الطفل عمر السنة، مع إمكانية تمديد الإقامة لعام إضافي إذا اقتضت مصلحة الطفل ذلك. هذا التوجه يعكس رغبة المشرّع في حماية حقوق الأم والطفل. ولكنه يظل إجراءً محدوداً يركز على فترة قصيرة من حياة الطفل. ومن جهة أخرى، نص القانون عدد 68 لسنة 2009 على إمكانية استبدال عقوبة السجن بعقوبات بديلة، مثل العمل لفائدة المصلحة العامة أو التعويض الجزائي، شرط ألا يتجاوز الحكم عام واحد.
وإذ يكمن الهدف من هذه الإجراءات، في السعي نحو تحقيق العدالة بطرق أكثر إنسانية وكفاءة، من خلال تقليل الآثار السلبية للسجن وتعزيز إعادة التأهيل والتخفيف من الاكتظاظ داخل السجون، إلا أن تطبيقها يبقى محدوداً ولم يُولِ أي اهتمام لمختلف الفئات أو يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الفضلى للطفل. وحتى إذا حاول القانون اتخاذ إجراءات لمراعاة مصلحة الطفل داخل السجون، فإن جملة الآثار السلبية ستبقى موجودة، لأن السجن وخاصة في نموذجه التونسي لا يمكن أن يكون بديلاً حقيقياً للأماكن التي من الواجب أن يكون فيها الطفل. ومن هذا المنطلق لا يمكن الحديث عن مصلحة الطفل بمعزل عن مصلحة أمه، وهو ما يتطلب إعادة التفكير بصفة جدية في العقوبات المسلطة على الأمهات السجينات. فيُعتبر سجن الأمهات انتهاكًا غير مباشر لحقوق أطفالهن، حيث يُحرم الأطفال من الرعاية العاطفية والجسدية، مما يؤثر على نموهم وتوازنهم النفسي. إذ يتعين على الدولة توفير بدائل أكثر إنسانية وفقًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، حيث تُعامل الأمهات السجينات بكرامة، مع توفير بيئة إنسانية تحترم خصوصياتهن كامرأة وكأم. في غياب بدائل فعّالة، تتحمل الأمهات السجينات تكلفة كبيرة تتجاوز العقوبة المفروضة عليهن، لتشمل تأثيراتها السلبية على أطفالهن. الذين يُحرمن من الرعاية الأسرية ويتعرضن لتحديات نفسية واجتماعية جسيمة.
إذ يتنزل هذا في السياق التونسي، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث إن جزءًا من النساء السجينات، مثل أولئك اللاتي يتم إيقافهن لعدة أشهر على خلفية قضايا رأي، كان من الممكن أن يلجأ فيها القضاء إلى عقوبات بديلة، لا سيما في حالة النساء الأمهات. إن اعتماد العقوبات البديلة يمكن أن يساهم في تحقيق التوازن وضمان حقوق الأفراد دون الإضرار بحقوق الطفل والأم في آن واحد، كما يعكس التزامًا بمبادئ العدالة الاجتماعية التي تراعي مصلحة الطفل والأسرة. في ظل المناخ السياسي الراهن، الذي يتسم بتزايد الحواجز الاجتماعية والاقتصادية، أصبح من الضروري البحث عن حلول تشريعية تساهم في تخفيف الأعباء على النساء السجينات، خصوصًا الأمهات الحوامل والمرضعات. هذه الفئة من النساء تحتاج إلى رعاية خاصة تضمن لها حقوقها الإنسانية والاجتماعية.
من الضروري أن تكون التشريعات الحالية أكثر مرونة وملاءمة للسياسات الجزائية التي تهدف إلى تقليل العقوبات السالبة للحرية، مع التركيز على توفير بدائل فعالة للسجن. فالعقوبات البديلة ليست فقط وسيلة لتخفيف الضغط على السجون المكتظة، بل تعد أداة لتحقيق نظام عدالة أكثر إنسانية وفعالية. كما تسهم هذه البدائل في تقليل معدلات الجريمة، وتعزيز برامج إعادة التأهيل، وتحسين العلاقات المجتمعية.
علاوة على ذلك، يعد إدراج النساء الحوامل والمرضعات ضمن الفئات المستفيدة من العقوبات البديلة خطوة مهمة لضمان حقوق الأم والطفل. فالحرمان من الأمومة يحمل آثارًا سلبية كبيرة على الطفل والأسرة ككل. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي عدم اعتماد الحلول البديلة إلى مخاطر الإضرار بنشأة الطفل بشكل سليم، مما قد يؤثر على مستقبله بشكل سلبي.
الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه هذه الحلول التشريعية هو أن العقوبة ليست مجرد أداة للمعاقبة، بل وسيلة للردع والإصلاح. ومن هذا المنطلق، يجب أن تسعى الدولة إلى تبني آليات تشريعية تضمن إصلاح نظام العقوبات، مع مراعاة الظروف الخاصة بالنساء وضمان حقوقهن وحقوق أطفالهن في جميع مراحل تطبيق العدالة.