تعيش العابرات في السجون التونسية واقعًا مأساويًا يكشف عن حجم التمييز والوصم الذي يتعرضن له. تبدأ المعاناة من لحظة الإيقاف، حيث يبرز غياب أي إطار قانوني يعترف بهويتهن الجندرية في النظام التونسي. يتم التعامل معهن وفق الهوية القانونية السابقة التي تخلين عنها، ما يعني استخدام اسمهن وجنسهن القديمين في جميع الإجراءات الرسمية، بما في ذلك سجلات الاحتفاظ، والتوقيف، والمرافعات القضائية. هذا التجاهل القانوني يحمل تبعات نفسية قاسية تؤثر بعمق على العابرات، حيث يُعتبر الإصرار على استخدام الهوية المسقطة إنكارًا لوجودهن الفعلي وهويتهن الحقيقية، مما يضعهن في مواجهة مستمرة مع شعور بالإقصاء والرفض. كما يؤدي هذا الإجراء إلى تعريضهن لمواقف مهينة، حيث تُفرض عليهن التعاملات اليومية داخل منظومة قانونية ومجتمعية لا تعترف بوجودهن. كما أن إجراء الحلاقة القسرية، الذي يُفرض عليهن منذ لحظة تحولهن إلى السجن دون أي اعتبار لرغبتهن أو هويتهن الجندرية، يخلّف آثارًا نفسية عميقة ويجردهن من شعورهن بالكرامة والاحترام. إذ تُعدّ الحلاقة القسرية واحدة من الانتهاكات الجسيمة التي تواجهها العابرات داخل السجون أو مراكز الإيقاف في تونس، حيث تُجبر العابرات على قص شعرهن، في إجراء يحمل أبعادًا تتجاوز الجانب المظهري لتمس جوهر هويتهن الجندرية وتعبيراتهن الذاتية. فالشعر بالنسبة للعابرات ليس مجرد عنصر جمالي، بل هو جزء أساسي من تعبيراتهن الجندرية، يعكس إحساسهن بذواتهن وانتمائهن الهوياتي. فعندما تُفرض عليهن الحلاقة القسرية، يُدمر هذا الرابط الحميم بين مظهرهن الخارجي وهويتهن الحقيقية، ما يؤدي إلى شعور عميق بالإذلال والانتهاك. هذا الإجراء لا يقتصر على تغيير مظهرهن، بل يعكس أيضًا محاولة لفرض هوية جندرية لا تعترف بخياراتهن، مما يعزز إحساسهن بالإقصاء والاغتراب. من الناحية النفسية، تترك الحلاقة القسرية آثارًا مؤلمة تدوم لفترة طويلة. فبالإضافة إلى الصدمة اللحظية، تعاني العابرات من إحساس دائم بفقدان السيطرة على أجسادهن وحياتهن، وهو ما يضاعف من حالة القلق والاكتئاب التي قد يكنّ يعانين منها مسبقًا. كما يتسبب هذا الفعل في تذكيرهن باستمرار بالوصمة المجتمعية التي يواجهنها، مما يعمّق الجروح النفسية الناتجة عن رفض المجتمع والقانون لهويتهن. فهذا الإجراء يؤثر على قدرة العابرات على استعادة الثقة بأنفسهن والاندماج مجددًا في المجتمع بعد انتهاء فترة الاحتجاز.
إن إصرار النظام القانوني والاجتماعي وحتى الإجرائي على فرض هوية جندرية محددة، من خلال ممارسات مثل الحلاقة القسرية، لا يُعدّ انتهاكًا فرديًا فقط، بل هو جزء من منظومة قمعية تحتاج إلى إصلاح جذري يضمن احترام كرامة جميع الأفراد وهوياتهم الجندرية. كل هذا، ولابد من الإشارة إلى أنه في العديد من الأحيان، رغم التغيرات الظاهرة التي قد تكون العابرات قد أجرينها على مظهرهن الخارجي، إلا أنهن غالبًا ما يُسجَنَّ في سجن الرجال، في خطوة تبررها السلطات بحمايتهن، لكنها فعليًا تزيد من تعريض حياتهن للخطر. فمثل هذا الإجراء يُبقيهن في مواجهة مباشرة مع التحرش والعنف، ويعمق الشعور بالعزلة والتهديد المستمر، في ظل غياب أي آلية لحمايتهن فعليًا أو للاعتراف بهويتهن. إضافة إلى ذلك، يُعد التفتيش الجسدي أحد أكثر التجارب المذلة التي تتعرض لها العابرات، إذ يتضمن ممارسات تنتهك الحرمة الجسدية وتُشعرهن بالإهانة. كما أن العديد من العابرات نقلن شهادات حول المعاملة التمييزية والتهكم الذي يواجهنه من الأعوان، في ظل نظرة قانونية ومجتمعية لا تزال تنظر إليهن كأشخاص “مختلفين وخارجين عن الطبيعة”، متجاهلة هويتهن الجندرية. هذه الانتهاكات تأتي نتيجة مباشرة لعدم اعتراف الدولة بهوية العابرات الجندرية، حيث تستمر في فرض الهوية القانونية المرتبطة بالماضي، مما يُعرّضهن أيضًا للمساءلة القضائية تحت الفصل 230 من المجلة الجزائية. هذا الفصل لا يجرّم فقط حياتهن الخاصة، بل يحرمهن من أبسط حقوقهن في السلامة الجسدية والنفسية. ويُعمّق معاناتهن بحرمانهن من أبسط حقوقهن في السلامة الجسدية والنفسية. فتحت هذا القانون، تتحول هويتهن الجندرية وتعبيراتهن الذاتية إلى مصدر دائم للتهديد، حيث يُواجهن الاضطهاد ليس فقط من قبل المجتمع، بل أيضًا من قبل النظام القانوني.
ما تعيشه العابرات في السجون يعكس الحاجة العاجلة لإصلاح شامل في النظام القانوني التونسي، يبدأ بالاعتراف بهويتهن الجندرية وإلغاء سياسة التجريم التي تقوم عليها المادة 230 من المجلة الجزائية، مع توفير الحماية اللازمة لهن ووقف جميع الممارسات المهينة التي تنتهك إنسانيتهن. إن ضمان حقوق العابرات ليس فقط مسؤولية قانونية، بل إن حماية هويتهن الجندرية وسلامتهن النفسية والجسدية ليست مجرد مطلب حقوقي، بل واجب قانوني ملزم على الدولة التونسية بموجب المعاهدات الدولية التي انضمت إليها والمتعلقة بحماية حقوق الإنسان دون أي تمييز.
من أبرز هذه المعاهدات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يشكل أساس القانون الدولي لحقوق الإنسان، وينص في مادته الأولى على أن “جميع الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق”، ويؤكد في مادته الثانية على وجوب تمتع الجميع بالحقوق والحريات الواردة فيه دون أي تمييز، بما في ذلك التمييز على أساس الهوية الجندرية.
إلى جانب ذلك، تُلزم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الدول الأطراف بضمان جميع الحقوق الواردة فيه لكل الأفراد دون تمييز (المادة الثانية)، كما تنص المادة السابعة منه على حماية الأفراد من المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. كذلك، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) تُلزم الدول باتخاذ إجراءات للقضاء على أي شكل من أشكال التمييز، بما يشمل الأفراد الذين يواجهون اضطهادًا على أساس هويتهم الجندرية.
وأخيرًا، تُعدّ مبادئ يوغياكارتا إطارًا مهمًا يُبرز الالتزامات الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان للأشخاص من مجتمع الميم/عين، حيث تدعو إلى الاعتراف القانوني بهويتهن الجندرية وحمايتهم من كافة أشكال التمييز.
هذا الإخلال بالالتزامات الدولية لا يضر فقط بسمعة تونس، بل يُظهر الحاجة الملحة إلى إصلاحات قانونية جذرية تضمن الاحترام الكامل لحقوق الإنسان لكل مواطنة ومواطن. كما أن هذا الإخلال يجعل من السهل الإقرار بأنها بلد غير آمن للعيش، ويُقلل من فرصة الحديث عن السلم الاجتماعي وصعوبة العيش.